المراهقة معبر الى سن الرشد

تخيَّل انك انتقلت لتوِّك من منطقة مناخها معتدل الى منطقة قطبية.. ما ان تترجل من الطائرة حتى تدرك ان المناخ شديد البرودة. فتتساءل: ‹هل يمكنني ان أتأقلم؟.> الجواب هو نعم، لكنك ستضطر الى اجراء بعض التعديلات. يواجهك وضع مماثل حين يصير احد اولادك مراهقا.. فيخيّل لك ان المناخ تبدل بين ليلة وضحاها.. فالصبي الذي كان في ما مضى يلازمك كظلك بات يفضّل رفقة مَن هم من جيله. والبنت التي لم تُطق صبرا حتى تخبرك عن يومها صارت تجيب بكلام مقتضب. تسألها: «كيف كان يومك في المدرسة؟». فتجيب: «لا بأس»..ويسود الصمت. فتحاول مجددا: «ماذا يشغل بالك؟». فتجيب: «لا شيء»..ويستمر الصمت. فما الذي دهاها؟ فمنذ فترة قصيرة، «كنت وكأنك تحمل تصريحا يخولك الدخول الى الكواليس في حياة اولادك. اما الآن، فكل ما يمكنك ان تأمل الحصول عليه هو الجلوس بين الحضور، وعلى الارجح لن تجلس في المقاعد الامامية»، بحسب كتاب في التواصل بين الوالدين والمراهقين فهل يجب ان ترضى بهذا الواقع؟ كلا على الاطلاق، فبإمكانك اذابة الجليد والبقاء قريبا من اولادك خلال المراهقة. لكن عليك اولا ان تفهم ماذا يحصل في هذه المرحلة المذهلة انما المضطربة احيانا. الانتقال من الطفولة الى سن الرشد:- اعتقد الباحثون في ما مضى ان نمو دماغ الطفل يكتمل تقريبا في سن الخامسة كحد اقصى.. اما اليوم، فيظنون انه فيما لا يتغيَّر حجم الدماغ الا قليلا، يحدث تغيير في وظيفته بعد هذا العمر.. فمنذ بداية سن البلوغ، يمر الاحداث بتغيير جذري في الهرمونات يبدل طريقة تفكيرهم.. على سبيل المثال، يقيِّم الاولاد الصغار الامور على اساس قواعد محددة مبنية على وقائع محسوسة.. اما المراهقون فيميلون الى التحليل على ضوء مفاهيم مجردة، آخذين في الاعتبار الجوانب الضمنية لكل مسألة.. فيكوّنون قناعاتهم الخاصة ولا يترددون في التعبير عنها. لمس پاولو من ايطاليا هذا التغيير في ابنه المراهق. يقول: «عندما أنظر الى ابني، لا ارى امامي ولدا بل رجلا صغيرا. وما يدهشني ليس نموه الجسدي فحسب، انما طريقة تفكيره بشكل خاص. كما انه لا يخاف ان يعبِّر عن آرائه ويدافع عنها». هل لاحظت تغييرا مشابها في ولدك المراهق؟ ربما في طفولته، كان يطيع اوامرك، لمجرد انك طلبتها منه. اما الآن، فصار يسألك عن الاسباب، حتى انه قد يشكك في القيم التي تتبناها عائلتك. وفي بعض الاحيان، يَظهر كلامه الجازم بمثابة تمرد.. لكن لا تتسرع في الاستنتاج انه لا يسعى الى الانقلاب على قيمك. فجُلّ ما في الامر ان ولدك ربما يحاول جاهدا تبنّي قيمك وإيجاد مكان لها في حياته هو. للايضاح، تخيل انك تنتقل من بيت الى آخر وتنقل معك الاثاث. فهل يسهل ايجاد مكان لكل قطعة اثاث في منزلك الجديد؟ كلا على الارجح.. لكن الاكيد انك لن ترمي اية قطعة ثمينة في نظرك. يواجه ولدك المراهق وضعا مماثلا فيما يستعد لليوم الذي ‹يترك فيه اباه وأمه›. صحيح ان ذلك اليوم لا يزال بعيدا، فهو ليس راشدا بعد، لكنه سبق ان بدأ بتوضيب اغراضه اذا جاز التعبير.. ففي سنوات مراهقته، يتفحص القيم التي تربى عليها ويختار ما سيتبنى منها في سن الرشد.. قد ترهبك فكرة اتخاذ ولدك قرارات كهذه.. لكن مما لا شك فيه انه لن يحتفظ الا بالمبادئ القيّمة في نظره حين ينتقل الى سن الرشد. لذا الآن فيما لا يزال ولدك يعيش في منزلك هو الوقت المناسب ليتفحص المبادئ التي سيحيا وفقها... وفي الواقع، ان إقدامه على هذه الخطوة هو عين الصواب.. ففي النهاية، اذا قبِل اليوم مقاييسك انت بثقة عمياء، فقد يقبل بسذاجة مقاييس الآخرين في وقت لاحق. ويقال ان فتى كهذا يسهل اغراؤه لأنه «ناقص القلب»، عبارة تشير الى شخص تنقصه صفة التمييز وغيرها من الصفات الجيدة.. والشاب الذي ليست لديه قناعات خاصة يمكن ان ‹تتقاذفه الامواج، ويحمله الى هنا وهناك كل ريح تعليم بحيلة الناس.. فكيف لك ان تمنع حدوث ذلك لولدك؟ احرص على ان يكتسب ما يلي: ١ - قوى ادراك مدرَّبة كتب بولس ‹قوى ادراك الناضجين مدرَّبة على التمييز بين الصواب والخطإ.. لكنك ربما تقول: ‹لقد علَّمت ولدي ما الصواب والخطأ منذ سنين›.. ولا شك ان هذا التدريب نفعه آنذاك وأعده لمرحلة نموّه التالية.. غير ان بولس تحدث عن ضرورة تدريب قوى الادراك.. ففي حين يكتسب الاولاد الصغار المعرفة عمّا هو صواب وخطأ، على المراهقين ان ‹يصيروا مكتملي النمو في قوى الفهم› فمن الافضل الا يطيعك ابنك طاعة عمياء، بل ان يكون ماهرا في التحليل المنطقي.. فكيف تساعده على ذلك؟ ان احدى الطرق هي السماح له ان يعبِّر عمّا في نفسه.. فلا تقاطعه وحاول قدر المستطاع الا تنفعل، ولو قال امرا لا ترغب في سماعه.. يقال : «ليكن كل انسان سريعا في الاستماع، بطيئا في التكلم، بطيئا في السخط». اضافة الى ذلك، «من فيض القلب يتكلم الفم» فإذا اصغيت لولدك المراهق، تكتشف ماذا يشغل باله حقا... وعندما يحين الوقت لتتكلم، حاول ان تطرح عليه الاسئلة عوض ان تتكلم معه بأسلوب جاف وقاسي لمَ ينبغي ان تشجعه على التعبير عن نفسه؟ صحيح انك تسمع ما يقوله، لكن عليك ان تعرف ما يفكر فيه ايضا !! لمَ ينبغي ان تشجعه على التعبير عن نفسه؟ لأن التحليل بهذه الطريقة يساعده على فحص طريقة تفكيره.. وقد يتفاجأ حين يكتشف انكما تتشاطران المعتقدات عينها، وأن قلقه نابع في الحقيقة من مسألة مختلفة تماما. مثلا، ربما لا يعرف ولدك كيف يوضح للآخرين معتقداته.. او قد يكون معجبا بشخص من الجنس الآخر لا يشاطره ايمانه. تحرَّ عن اصل المشكلة وساعده ان يراها هو ايضا.. فكلما استعان بقوى ادراكه، كان اكثر استعدادا لسن الرشد. التوجيه من اشخاص ناضجين:- في بعض المجتمعات اليوم، وجد الباحثون ان الاحداث يندمجون في عالم الراشدين في سن باكرة.. فيعملون معهم، يعاشرونهم، ويتحملون المسؤوليات عينها. فلا تكون المراهقة حتما «مرحلة صعبة، عاصفة»، كما يدعي بعض علماء النفس.. حتى انه لا وجود فيها لتعابير مثل «جناح الاحداث» و «المراهقة».. بالتباين، يعيش الاحداث في بلدان عديدة واقعا مختلفا.. فهم يُجمعون في مدارس مكتظة لا يعاشرون فيها سوى الذين من عمرهم. وحين يعودون الى بيوتهم، يجدون المنزل فارغا. فالاب والام كلاهما يعملان، والاقارب يعيشون بعيدا.. لذا يصرفون الجزء الاكبر من وقتهم مع نظرائهم. فهل تدرك الخطر الذي يهددهم؟ لا تقتصر المسألة فقط على اختلاطهم بأناس يؤثرون عليهم تأثيرا سيئا.. فقد وجد الباحثون انه حتى الاحداث المثاليون يميلون الى التصرف بطريقة غير مسؤولة اذا انعزلوا عن الكبار. فهل ينال ولدك المراهق التوجيه من راشد او اكثر لديه القيم نفسها؟ في هذه الحال، لا تغَر من هذه الصداقات التي تؤثر فيه تأثيرا ايجابيا اذ يمكن ان تعينه على فعل الصواب.. «السائر مع الحكماء يصير حكيما». حس بالمسؤولية:- في بعض البلدان، يحدّ القانون من ساعات العمل المسموحة للاحداث، ويمنعهم من القيام ببعض الاعمال. وقد وُضعت هذه القيود لحمايتهم من ظروف العمل الخطرة التي نشأت بشكل غير متوقع اثر الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. صحيح ان هذه القوانين تحمي الاحداث من الخطر وسوء المعاملة، لكن يرى بعض الخبراء انها تحول دون تحمُّلهم المسؤوليات.. نتيجة لذلك، ينمي مراهقون كثيرون موقفا وقحا «ان لديهم حقا مكتسبا، وكأنهم يستحقون ان تُقدَّم لهم الاشياء دون عناء»، حسبما يذكر كتاب الهروب من مراهقة لامتناهية (بالانكليزية). ويقول الكاتبان ان هذا الموقف «يبدو وكأنه رد فعل طبيعي للعيش في عالم اكثر توجها الى تسلية المراهقين منه الى توقُّع اي شيء منهم». وفي الواقع، غالبا ما يتوق المراهقون الى تولّي المسؤوليات، ولا سيما حين يشعرون انهم ينجزون عملا مفيدا.. فلا يدربهم هذا على ان يصبحوا راشدين يتحلون بحس المسؤولية في المستقبل فحسب، بل يساعدهم على تحقيق امكاناتهم اليوم..