top of page

تعبير الرؤيا نوعٌ من الفُتيا


التعبير عند المُلْهَمينَ أنَّ المعبِّرَ إنّما ينظر إلى القصدِ والغايةِ من الرؤيا , فيكونُ هذا القصدُ هو الشاهدُ المُعتبر في التعبيرِ وما عدا ذلكَ فهو من بابِ الحواشي والمُكمِّلات للرؤيا. ومنها أنْ يذْكُرَ المُعبِّرُ أمورًا دقيقةً في تعبيرهِ للرؤيا- ليست بخافيةٍ على الرائي-؛ ليُثبِتَ قوة تعبيرهِ. وهو بذلك إنّما يبرهن على أنَّهُ إنّما يستقي تعبيرهُ عن طريقِ إخبارِ القرينِ والجآنِّ , كمن يخبر عن لونِ الحذاء الذي تلبسهُ الزوجة, أو يلبسه الزوج , أو يُخبر عن لونِ غرفةِ النوم , أو يُخبر أنَّكَ مصابٌ بعينٍ في منطقة محدّدة من الجسد- وليس في الرؤيا ما يدل على مكانها-, أو يُحدُّد أوقاتًا معينةً (بالسنةِ والشهرِ واليومِ والساعةِ والدقيقة). ومنها أنّكَ لا تجدُ علاقةً- لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ- بينَ الرؤيا وبين هذا التعبير الذي عبرهُ لك هذا المُعبّر , حتى إنّك لتتعجبُ وتصيبك الدهشة من جرّاءِ ما سمعت. ومنها أنَّ بعضهُم يشترطُ أن تكونَ الرؤيا حديثة , ولم يمر عليها أكثر من ثلاثة أيام؛ وهذا واللهُ أعلم لأنَّهُ إذا مضت هذه المدة , ربما أتى القرين بالعجائب؛ فحتى لا ينكشفَ أمرهُ و يُفتضِح يشترِطُ هذا الشّرط الذي لا دليل عليه لا من كتابٍ ولا من سُنةٍ ولا من عملِ صحابيٍّ أو تابعيٍّ ، ولا من عُرْفٍ عند أهل العلمِ بالتعبير في القديم أو في الحديث. وقد ابتُلينا بكثرةِ هذا النوعِ من المُعبرينَ , وليس هذا من التعبيرِ في شيء، وهو أشبهُ بالكهانةِ منه بالتعبيرِ الذي عُرفَ عندَ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- , وأصحابهِ –رضوانُ الله عليهم- , ومن بعدهم من السلفِ –رحمهم الله- الذين كانوا أئمةً في هذا الشأنِ. ولا شكَّ أنَّ أخذَ التعبيرِ من هؤلاءِ لهُ مدخلٌ فيما قد يحصلُ من المفاسد والشرورِ العظيمة مما يتصل بالكلامِ على ما يتعلّق بمسألةِ العملِ بالرؤى. التعبيرُ عنْ طريقِ الكُتُبِ القديمةِ: إنَّ النظرَ فيما وردَ من التعبيرِ في الكتبِ القديمةِ ينبغي أنْ يكونَ المقصودُ منه دراسةَ أوجهِ التعبير , وكيف كان قدماء المعبرين يعبرون الرؤى و يستنبطون العلاقة بين التعبير والرمز المُعبَّر. أمَّا أنْ يعتمدَ التفسيرات القديمة؛ ليُفسر بها الرؤى في هذا العصر، فإنَّ هذا يقع بهِ من الشرِّ والفسادِ بسببِ الخطأ في التعبير بالتفسيراتِ القديمة- كما سنوضِّح -، ومن هنا يُعلَم أن اشتراط أن يكون المُعبِّر للرؤيا عنده علم فيها، لا يعني أن يعتمد التعبيراتِ الموجودة في الكتب القديمة؛ فإنّ هناك فروقًا بين التعبير في الماضي، والتعبير في الحاضر، ومن لا يدرك هذه الفروق فسوف يأتي في تعبيره للرؤى بالعجائب. ولتوضيح ذلك أوردُ بعض الأمثلة: - يصلي وظهره إلى الكعبة: رأى أحدهم أنه يصلي وظهره إلى الكعبة، فهذه الرؤيا حينما عُرِضتْ على بعض الجهلة ممن يزعمون معرفتهم بالتعبير أجرى عليها قواعد وأحكام اليقظة وقال: إن هذا الرجل يرتدّ والعياذ بالله، ولكن عبرها الشيخ يوسف المُطْلَق - رحمه الله - فقال: "هذا رجلٌ خطب امرأةً وسيولِّيها ظهره ويتركها." ووجه هذا التعبير أن الكعبة في هذه الرؤيا ترمز إلى المرأة، وكون الرائي يصلي وظهره إلى الكعبة- وهوالشاهد هنا- يعني: أنه يتركها ولا يُقبِل عليها، فانظر - رحمك الله - إلى الفرق بين تأويل العلماء بالتعبير وبين الجاهلين به. - سالم حليق: وهذا شخصٌ قال لي: "رأيت أحد إخواني في الله من أهل الاستقامة في المنام وهو حليق اللحية وخشيت أن يتغير حال هذا الشخص وينتكس والعياذ بالله." فقلت له: إن الرؤيا ليست لها علاقة بصاحبك، ولكن: ما اسمه؟ فأجاب بأن اسمه (سالم)، فقلت له بأن هذه الرؤيا تعني أنه سيحصل لك أمرٌ ويُقَدِّر لك الله السلامة منه، وستنفق مالاً كثيرًا بسببه، فقال لي: "نعم صدقت، فأنا بعد الرؤيا وقع لي حادث سيرٍ ونجاني الله منه وصرفْتُ مبلغًا كبيرًا لإصلاح السيارة." فتأملْ كيف أن الرؤيا ليس لها تعلقٌ بالمرئيّ وإنما كانت تتعلق باسمه (سالم)- هذا من جهة-، ومن جهةٍ أخرى فإن كونه حليق اللحية رمزٌ يتعلق بإخراج المال وإنفاقه بالنسبة للرائي. ومن هنا ندرك الخطأ في اعتبار الرؤيا متعلقةً بالمرئيّ، والخطأ الثاني في تفسير الحلاقة بما يتفق مع الأحكام التي تجري في اليقظة، وأن حلقها نوعٌ من المعصية والفسق، ولربما أجرى بعض المعبرين الجهلة هذا الحكم في اليقظة على هذه الرؤيا، وقال: إن سالمًا هذا رجلٌ فاسقٌ، واحذروا منه وانتبهوا فهو يُظهِر لكم خلاف ما يُبطِن ...إلخ من أنواع التهم والقذف والله المستعان؛ فالحلاقة للرأس أو للّحْية تتعلق بالمال، ويختلف تعبيرها بحسب الرؤيا؛ فهي إما مالٌ تنفقه وتخرجه، أو مالٌ يأتيك. - رأت زوجها يدخن: وهذه إحدى النساء رأت زوجها يدخن، تقول: مع أنه في الواقع لا يدخن، وتعبيرها أن هذا خبرٌ سارٌّ يعمُّ أهل البيت؛ فالتدخين هنا يرمز إلى ما يحصل به الغبطة والسرور و(يكيِّفُ) الشخص, ووجه التعبير بهذا أن الدخان والشيشة عند من يتعاطاها تُعتَبر كيفًا له، وبعض الجهلة قد يُجرِي هذه الرؤيا وأمثالها على ظاهرها في أحكام اليقظة، وربما قال: إن هذا الزوج أو الرجل فاسقٌ واحذري منه وانتبهي له إلى غير ذلك مما يترتب عليه من الإفساد وإيقاع الشرور بين المرأة وزوجها. - يشرب الخمر: ومن ذلك - كذلك - أن أحدهم رآى في المنام صديقًا له وفي يده زجاجة خمرٍ يشرب منها. يقول هذا الرائي: "فوقع في نفسي من الشك والظن السيء بهذا الصديق وكدت أن أُحذِّر منه أصدقائي الآخرين وأنه قد يكون مندسًّا بيننا وغير ذلك." ثم وفقه الله وسأل عن تعبيرها، فقال له المعبِّ:ر "ستصيب صديقك هذا منفعة." ووجه تعبير الخمر بالمنفعة أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ}[35] ؛ فاعتُبِر الإثم في اليقظة واعتُبِر النفع في تأويل رؤيا المنام. وقد ذكرتُ هذه الأمثلة؛ للتنبيه على هذه المسألة وأن هناك فرقًا بين أحكام وقواعد اليقظة وبين أحكام وقواعد المنام، وكذلك نقول لو كان تعبير الرؤيا على ظاهرها لما احتاج الناس إلى من يفسّرها لهم، ولأصبح في متناول الكثيرين منهم أن يفسّر الرؤى على هذا الأساس، ومن هنا تقع المفاسد والشرور؛ لما يترتب على هذا النوع من التفسير من تصوراتٍ وتصرفاتٍ وسلوكيات - رأى أنه المهدي: وهذا أحد الإخوة رأى في المنام هاتفًا يسمعه ولا يراه يقول له "أنت المهدي." وكان الرائي من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما سأل عنها الشيخ يوسف المُطْلَق - رحمه الله - فسّرها له بقوله "إنها بشارةٌ لك باستكمال بعض الأمور الناقصة في دينك" ومعنى كلام الشيخ - رحمه الله - أن الله سيهدي هذا الرائي. ولقد سمعتُ - بنفسي - عددًا من الرؤى رآى فيها أصحابها هواتف في المنام يسمع الرائي فيها هاتفًا يقول: "أنت المهدي" ومن ذلك ما وقع لي عام 1422هـ وأنا في جنيف-سويسرا- بعد أن ألقيتُ محاضرةً عن الرؤى سألني أحدهم - وكان من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله "إثر سهرةٍ حمراء نمتُ فرأيتُ هاتفًا يقول "قُم حارب الظلم، أنت المهدي" وكان رجلاً عاقلاً وقال لي: "أعتقد أن الرؤيا أولها حقٌ وآخرها باطل" فقلتُ له: "بل كلها حق" فتعجّب من كلامي، فقلت له: إنها تعني أن الله سيهديك، وتشارك في محاربة الظلم، فقال: "صدقْت، فإني بعد الرؤيا مَنّ الله عليّ بالاستقامة، وشاركْتُ في الجهاد أيام حرب البوسنة ضد الصرب".

والمقصود أنه يستحيل أن نعبر هذه الرؤى على ظاهرها وإلا أصبح عندنا عشرات المهديين بل مئاتٌ، ولا يمكن أن يكونوا كلهم المهدي المنتَظَر الذي بشّر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذه الرؤى الصريحة - التي يعتقد من يسمعها أو يراها أنها على ظاهرها في البشارة - قد يقع بسببها مفاسد وشرور وفتن، ومن ذلك ما كان يعتقده البعض ويحلف ويقسم عليه من أن أبا عمر محمد بن عبد الله السيف - رحمه الله - هو المهدي بسبب عددٍ من الرؤى التي وردتْ فيه، وفهموا منها ذلك. وكنتُ أقول إن هذه الرؤى تدل على أنه رجلٌ مَنّ الله عليه بالهدى فيما يقوم به من الجهاد والدعوة إلى الله والفُتيا في أرض الشيشان، ويستحيل أن يكون هو المهديُّ الذي بشّر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرجل ليس من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صرّح هو بنفسه عن ذلك, وكان بعض من يغلو فيه يقول: لعله من آل البيت وهو لا يعلم!! وكنتُ أقول: حتى لو صح هذا، فإن أحكام الشرع لا تتعلق بأمورٍ تظهر لبعض الناس وتخفى على آخرين، وفي هذه المسألة لا بد أن يكون نسبُه ظاهرًا واضحًا للجميع وأنه من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قُتِل - رحمه الله - عام 1426هـ تبيّن صدق وصحة ما كنتُ أقوله - ولله الحمد -، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بحادثة جهيمان - رحمه الله - وما حصل من الفتنة في أمر المهدي؛ بسبب الخطأ في تفسير وفهم الرؤى المتعلقة بالشخص الذي كانوا يرون أنه المهدي، ألا وهو محمد بن عبد الله القحطاني - رحمه الله -. وإنما أسهبتُ في الحديث عن هذا الأمر؛ لما حدث بسببه ولما سوف يحدث مستقبلاً من مفاسد وفتن نتيجةً للخطأ في فهم الرؤى وتفسيرها في هذا الخصوص. ومنذ عام 1426هـ وما بعده من الأعوام كنتُ أحذِّر الشباب وأحذِّر من حولي بأن هناك فِتنًا قادمةً فيما يتعلق بأمر ظهور المهدي وأن هناك شخصيتين سوف تُدَّعى لهما المهدية أو الخلافة والإمامة العظمى وأنه سوف يحصل بسببهما -الشخصيتين- فتنٌ ومفاسد وشرور، ولن يتم لهما الأمر لا من حيث دعوى المهدية ولا من حيث انعقاد البيعة بالخلافة والإمامة العظمى، وأن الأول منهما سيُقتَل وأما الثاني فلم يتضحْ لي من خلال الرؤى ما إذا كان سيُقتَل أو أنه سيرجع عن هذا الأمر ولا يستمر فيه ويَسْلم من القتل. وها نحن ذا في هذه الآونة، وفي هذا العام 1435هـ نسمع مَن يزعم أن أبا بكر البغدادي - الملقب بأمير المؤمنين للجماعة التي أطلقت على نفسها لقب (الدولة الإسلامية في العراق والشام) - هو الخليفة, وهناك قلةٌ من النّاس بدأوا يتكلمون عنه يقولون لماذا لا يكون هو المهدي الذي بشّر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصة أنّه قرشيٌّ هاشميٌّ !! ولا أدري، فلربما كان هذا الرجل هو الأول من الشخصيتين اللتين حذَّرْتُ منهما؛ فيكون مآله إلى القتل!. لقد كانت الرؤى تأتي بكثرةٍ ويظهر فيها أن جهيمان موجودٌ وحي، وكنتُ أقول: ستتكرر الفتنة في شأن المهدي؛ فاحذروا وانتبهوا , لا تتسرعوا ولا تستعجلوا , ولكنْ قدَرُ اللهِ نافذٌ , وهيَ أحداثٌ ستقعُ ولعلَّ الأمَّة تستفيدُ منها في مستقبل الأيامِ عندَ ظهور المهديِّ الحق , وتعرفُ إلى من تَرُدُّ الأمرَ في هذهِ المسائلِ والأمور العظيمة. إنَّ هناكَ أشخاصًا كثيرين في العالم الإسلاميِّ تتبّعتُهم , ادَّعوا المهْديَّة ولا يزالون يُصرون على ذلك , وهم موجودون في الوقت الحاضر , ونخشى أن يحدث بسبب أحدٍ منهم فتنة كما حدثت فيما قبل , ونعوذُ بالله من مضلات الفتن. إنّ الفتن إذا أقبلت التبست فيها الأمور وحارت فيها العقول , والمعصومُ من عصمهُ الله.

مواضيع سابقة
bottom of page