top of page

العملُ بالرُّؤى أحكامه وضوابطه


الرؤى الحق لا تخالف الشرع إنّ الرؤيا الصادقة الصالحة هي من عند الله -سبحانه وتعالى- , ولا يمكنُ أن تناقض أو تعارض الشرع الذي هو من عندِ اللهِ -سبحانه وتعالى-, وما كان من عند الله ليسَ فيه تناقضٌ أو اختلاف , قال الله تعالى: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا}[1]. ولكن قد تعارض الرؤيا مذهبًا من المذاهبِ أو قولاً من أقوالِ أهل العلمِ , إلا أنها لا يمكن إن كانت حقًا صادقة أن تعارض قاعدةً كُلِّيّةً أو أمرًا مُجمعًا عليه , وهذا ضابطٌ مهمٌّ لمعرفة الرؤيا الصادقة والصالحة في نفسها. - قصة أبي جمرة الضبعي: قال: سمعت أبا جمرة الضُّبعيَّ قال : "سألتُ ابن عباس -رضي الله عنهما- عن المتعة فأمرني بها, وسألته عن الهدي فقال فيها جَزورٌ أو بقرةٌ أو شاةٌ أو شِركٌ في دم. قال: وكأنَّ ناسًا كرهوها, فنمت فرأيتُ في المنام كأنَّ إنسانًا يُنادي : حجٌّ مبرور , ومتعةٌ مُتقبلة. فأتيتُ ابن عباس -رضي الله عنهما- فحدثتهُ, فقال: الله أكبر, سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-" فهذا حَبرُ الأمة وترجمان القرآنِ فرحَ بهذه الرؤيا ؛ لأنها تؤيدُ ما كان يذهبُ إليه من التمتع في الحج , بينما كان الآخرون على خلاف ذلك في زمن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- الذي كان ينهى عن التمتع في الحج ؛ فالرؤيا هنا خالفت مذهبًا من المذاهب وقولًا من أقوالِ العلماء , وخالفت ما كان عليه الأمير في مكة وعامةُ الناس في ذلك الوقت , ولكنّها ليست باطلة، بل هيَ حقٌّ غيرَ أنّها توافق قولًا آخرًا، ومذهبًا آخرًا تدل نصوص الشرع عليه. فإذا كان هذا العالم الرباني فرحَ بهذهَ الرؤيا التي تؤيِّدُ قولًا مغمورًا وغيرَ مشهور حتى إنّهُ وردَ في ثنايا هذه القصة أنّهُ أكرم أبا جمرةَ صاحبَ الرؤيا واستضافهُ ثلاثة أيام فرحًا به وبرؤياه. فإذا كان هذا شأن هذا الصحابي العالم , فما بالك برجلٍ من المسلمينَ في هذه الأيام التي تعُجُّ بالفتن والضلالاتِ، ما بالك به وقد أتتهُ رؤيا ترشدهُ إلى عملٍ دون آخر وإلى موقفٍ يتخذه دون آخرٍ وإلى القولِ في مسألةٍ دون قولٍ آخر وهو في هذا كله لم تخرج رؤياه عما دل عليه الشرعُ, أفيخرجُ بصنيعهِ هذا عما كان عليهِ سلفه الصالح -رضوانُ الله عليهم- أو يُنكَرُ عليه عمله بالرؤيا في هذه الحال؟! قال ابن حجر في ذكر فوائد هذه القصة: " ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفَرَحُ العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم

هل يترتب على الرؤيا حكم شرعي؟ والرؤيا لا يترتب عليها حكم شرعي بمعنى أنها لو تضمنت الأمر بقتل شخص أو إقامة الحد عليه لأنه سارق أو زانٍ أو شارب خمر؛ فهذا كله من قبيل الأحكام القضائية ولا يُلتفَت إلى هذا النوع من الرؤى وما دلت عليه إذا لم يكن في الواقع ما يؤيدها من البينات والدلائل والقرائن المعتبرة في القضاء وفض الخصومات والمنازعات بين الناس وكذلك من معاني عدم ترتب الحكم على الرؤيا أنه لا اعتداد بالرؤى والأحلام إذا خالفت نصًّا شرعيًّا بأن اقتضت ترك واجب أو ارتكاب محرم أو تحريم مباح أو أدت إلى خرم قاعدة شرعية كلية؛ لأنها حينئذ تكون منشِئةً لحكم أو رافعةً أو مخصصةً له , ويقول الشاطبي- رحمه الله- في هذا الخصوص: " وَأَضْعَفُ هَؤُلَاءِ احْتِجَاجًا قَوْمٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخْذِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ، وَأَقْبَلُوا وَأَعْرَضُوا بِسَبَبِهَا: فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَا فُلَانًا الرَّجُلَ الصَّالِحَ، فَقَالَ لَنَا: اتْرُكُوا كَذَا، وَاعْمَلُوا كَذَا. وَيَتَّفِقُ هَذَا كَثِيرًا [لِـ] الْمُتَرَسِّمِينَ بِرَسْمِ التَّصَوُّفِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وَأَمَرَنِي بِكَذَا، فَيَعْمَلُ بِهَا وَيَتْرُكُ بِهَا؛ مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا أَنْ تُعْرَضَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ سَوَّغَتْهَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا؛ وَجَبَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ أَوِ النِّذَارَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا" ثم ذكر قصة الكتاني وأبي يزيد البسطامي ثم قال: " فَلَوْ رَأَى فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا سَرَقَ فَاقْطَعْهُ، أوْ عَالِمٌ فَاسْأَلْهُ، أَوِ اعْمَلْ بِمَا يَقُولُ لَكَ، أَوْ فُلَانٌ زَنَى فَحُدَّهُ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعَمَلُ، حَتَّى يَقُومَ لَهُ الشَّاهِدُ فِي الْيَقَظَةِ، وَإِلَّا؛ كَانَ عَامِلًا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَحْيٌ" [8] اهـ. ومن أمثلة ذلك لو تعلقت الرؤيا بإبطال شهادة شهود عدول ثبتت عدالتهم في الواقع فإنه لا يُلتَفت إليها ولا يُعمَل بها فيما دلت عليه وهذا كما ورد في "مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع " . وقد ذكر الشاطبي هذه المسألة في موضع آخر فقال: " مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، إِذْ سُئِلَ عَنْ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي قَضِيَّةٍ، فَلَمَّا نَامَ الْحَاكِمُ؛ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: لا تَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ، فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَقَدَ، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ رُؤْيَاهُمْ وَحْيٌ، وَمَنْ سِوَاهُمْ؛ إِنَّمَا رُؤْيَاهُمْ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ"، وإنما أعدتُ ذكر ما يتعلق بهذه المسألة؛ لبيان ما أفتى ابن رشد فيها لأن الشاطبي لم يتعرض لهذا في الموضع السابق. ومما يُستأنس به من القصص لتوضيح هذه المسألة- أعني أن الرؤيا لا يترتب عليها حكم شرعي- ما نقله الشاطبي- رحمه الله في كتابه- الاعتصام حيث قال: " يُحْكَى أَنَّ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي دَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ؛ قَالَ: عَلَيَّ بِالسَّيْفِ وَالنَّطْعِ، قَالَ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّكَ تَطَأُ بِسَاطِي وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنِّي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى مَنْ عَبَرَهَا، فَقَالَ لِي: يُظْهِرُ لَكَ طَاعَةً وَيُضْمِرُ مَعْصِيَةً. فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: وَاللَّهِ مَا رُؤْيَاكَ بِرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلَا أَنَّ مُعَبِّرَكَ بِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبِالْأَحْلَامِ الْكَاذِبَةِ تَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاسْتَحْيَا الْمَهْدِيُّ، وَقَالَ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ صَرَفَهُ وَأَبْعَدَهُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ أَفْتَى بِوُجُوبِ قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَرُوجِعَ فِيهِ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي مَنَامِهِ إِبْلِيسَ قَدِ اجْتَازَ بِبَابِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا؟ فَقِيلَ: هَلْ دَخَلْتَهَا؟ فَقَالَ: أَغْنَانِي عَنْ دُخُولِهَا رَجُلٌ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَوْ أَفْتَى إِبْلِيسُ بِوُجُوبِ قَتْلِي فِي الْيَقَظَةِ؛ هَلْ تُقَلِّدُونَهُ فِي فَتْوَاهُ؟ فَقَالُوا: لَا! فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي الْمَنَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْيَقَظَةِ " وإنما نقلتُ هاتين القصتين عن الشاطبي- رحمه الله-؛ لأن فيهما جوابًا محكمًا لمن أراد أن يبني على الرؤى أحكامًا بالقتل وهو من أعظم الحرمات بعد الشرك بالله. الرؤيا للتأنيس والبشارة والنذارة: ومما سبق يتبين أن الرؤيا إنما تأتي للاستئناس وأنها تحمل في طياتها البشارة أو النذارة ولكن لا يعني هذا عدم العمل بها طالما أنها لا تخالف الشرع ولم تخرج عن حدود القواعد الموضوعة في الشريعة, وربما دفع بعض الناس العمل بالرؤى أو أن يترتب عليها إخبارٌ عما يكون من أحداثٍ أو غير ذلك فيقول: إن الرؤى يُستأنَس بها فقط؛ وهذا في الحقيقة لا يعرف معنى الاستئناس ومعنى كونها في البشارة أو النذارة، ولتوضيح ذلك نذكر بعض أقوال أهل العلم في هذا الخصوص. ذكر الشاطبي - رحمه الله - قصة الكتّاني فقال: " يُحْكَى عَنِ الْكَتَّانِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً: يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " ثم علّق عليها بقوله: " فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التَّنْبِيهُ عَلَى الخير وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ" فتأمل كيف جعل هذه الرؤيا فيها بشارةٌ ووجه ذلك أنها دلت على الخير وهو حصول إحياء القلب بنوعٍ من الذكر, لكن لمّا كان في الرؤيا تحديدٌ بعددٍ وهو - رحمه الله - قد قرر في قواعد البدع أن تحديد ذكرٍ معينٍ بعددٍ يعتبر من البدع الإضافية، اعترض هنا على صحة الاستفادة من هذه الرؤيا والبناء عليها، لكنه استثنى بعد ذلك وقال: وإذا لم يوجد على اللزوم استقام, ومعنى كلامه هذا أنه لو عمل بهذه الرؤيا بدون الالتزام بها دائمًا وإنما يفعلها أحيانًا ويتركها أحيانًا أو يفعلها ولكن بدون الالتزام بهذا العدد الوارد فيها على الدوام فإن هذا يستقيم ولا يكون فيه بأسٌ ولا محذورٌ شرعي. والذي قصدته من إيرادي هذه القصة هو بيان كيف تكون مثل هذه الرؤى داخلةً في إطار البشارة وذلك بما تحمل فيها من الدلالة على خيرٍ قد يغفل عنه الرائي بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من كونها تفيد البشارة على نحو ما نتصور من أنها تبشر بحصول أمرٍ سارٍّ أو ما شابه ذلك، وأن مفهوم البشارة أوسع كما سيأتي مزيد إيضاحٍ لهذا المعنى. ومن ذلك ما ذكره عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: " رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: اتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَى " ثم علق عليها بقوله: " وَشَأْنُ هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الشَّرْعِ مَوْجُودٌ، فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النَّفْسِ مَعْنَاهُ تَرْكُ هَوَاهَا بِإِطْلَاقِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ 40 فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ}،. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ" فتأمل كيف اعتبر الشاطبي - رحمه الله - هذه الرؤيا لم تخرج عن كونها مفيدةً للبشارة واعتبر ما جاء فيها من توجيه الرب الكريم لعبده أبي يزيد موافقًا للشرع ، وأنه يمكن العمل بمقتضاها وعلل ذلك بقوله: " فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ الدَّلِيلِ" وهذا يعني أن الرؤيا قد يأتي فيها تنبيهٌ على موضع الدليل ويكون هذا من جملة ما تحمله من البشارة؛ لأنها دلت الرائي على خيرٍ قد غفل عنه كما تقدم في المثال السابق. ومن قصص الرؤى التي أوردها الشاطبي - رحمه الله - وخرجت عن إطار كونها بشارةً أو نذارةً ولكنها لا تخالف ما دلّ عليه الشرع في اليقظة ما ذكره بقوله : " خرّج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني; قال : خرّجت حديثًا واحدًا عن النبي من مئتي طريق أو من نحو مئتي طريق - شكّ الراوي - قال : فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبتُ بذلك; فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له : يا أبا زكريا، قد خرّجت حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مئتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: { أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ } ،ثم علّق عليها بقوله: " وهو صحيح في الاعتبار; لأن تخريجه من طرق يسيرةٍ كافٍ في المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلًا" اهـ، وهذا وجه كون الاشتغال بجمع طرقٍ كثيرةٍ للحديث داخلًا تحت دلالة قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر). ثم قال بعد ذلك "...العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة، ولا نذارة; فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات ، وما يُتلَقَّى منها تصريحًا ; فإنها وإن كانت صحيحة ; فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في الشريعة في مثلها ، كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفًا ; فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح ، ولكنه لم نحتجّ به حتى عرضناه على العلم في اليقظة ; فصار الاستشهاد به مأخوذًا من اليقظة لا من المنام ، وإنما ذكرت الرؤيا تأنيسًا ، و على هذا يُحمَل ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرؤيا " فكلامه هذا يُشعر بأن هذا النوع من الرؤى لم يخرج مخرج البشارة أو النذارة، وأن ما جاء فيه من الاستشهاد على مسائل علمية إنما هو على سبيل التأنيس، وأن الاحتجاج إنما هو بما في العلم الشرعي، قلتُ: وفائدة الرؤيا هنا أنها نبهت على موضع الاستدلال وأن الاشتغال بجمع طرقٍ كثيرةٍ للحديث مع كفاية إثباته بالطرق القليلة نوعٌ من التكاثر المنهي عنه- والله أعلم-، وقد تقدَّمَ ما ذكره ابن حجر في فوائد قصة رؤيا أبي جمرة الضبْعيّ وقوله "... والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي..." وخلاصة القول أن الرؤى قد تأتي بالبشارة أو النذارة وقد لا تدل على بشارةٍ ولا نذارةٍ ولكن مع ذلك يؤخذ بها طالما لم تخالف الشرع، ويكون ذكرها على سبيل الاستئناس وتعَضَّد بما يدل عليها من الأدلة الشرعية ولا يحتج بها استقلالًا. أحكام العمل بالرؤيا: كان ما سبق بمثابة المقدمة والتمهيد للوصول إلى الحديث عن صلب هذا الموضوع وهو ما يتعلق بالعمل بالرؤى، وأحكام ذلك، واستخلاص الضوابط والشروط المتعلقة بهذا الخصوص، وقد مر بعض هذه الضوابط فيما مضى من الكلام وكان لا بد من التقديم بتلك المقدمة؛ لإيضاح بعض المفاهيم والتصورات الخاصة بالرؤى وتعبيرها، ولنشرع فيما أردنا الحديث عنه ونقرر المسائل المتعلقة بموضوع العمل بالرؤى. العمل بالرؤيا : دل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على جواز العمل بالرؤيا- وإن كانت رؤيا واحدةً- بشرط عدم مخالفتها لما دل عليه الشرع ومن الأدلة على ذلك: - يوسف عليه السلام يبني على رؤيا الملك: ذكر القرآن الكريم في سورة يوسف عليه- الصلاة والسلام- قصة ملك مصر ورؤيا البقرات السبع السمان اللاتي يأكلهنّ السبع العجاف، ومع كون الملك كافرًا إلا أن ذلك لم يمنع أن تكون رؤياه صادقة؛ ولذلك فسرها يوسف- عليه الصلاة والسلام- بما هو معروف، وكانت هذه الرؤيا بمثابة المرشد إلى وضع سياسةٍ اقتصاديةٍ لمصر في المدة التي تضمنتها الرؤيا وهي أربعة عشرة سنة، ومن الواضح عمل النبي الكريم يوسف- عليه الصلاة والسلام- بهذه الرؤيا، والأصل الذي تقرر في علم الأصول أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يأتِ في شرعنا ما يخالفه.

مواضيع سابقة
bottom of page